متطوعون من رحم الإبادة
إعداد وتنفيذ: سارة المشهراوي | نوران أبو شمالة
في بقعةٍ صغيرة من العالم أنهكها القصف المستمر، وامتلأت سماؤها بدموع الوداع لشهدائها، ومن وسط الدمار والحصار تجد المتطوعين في غزة يتألقون بروح التطوع، حاملين على عاتقهم خدمة أبناء بلدهم، فهم ليسوا متطوعين عاديين هم أبطالٌ في زمن الحرب
في غزة أبطالٌ يدفعون الغالي والنفيس من أجل استبدال دموع الناس إلى ضحكات لا تنتهي، فتجد الصحفي يضحي بروحه من أجل إسماع آهات شعبه للعالم، وتجد الطبيب يحارب بكل ما أوتي من عزم، من أجل أن ينقذ الأرواح.
في الخامس من ديسمبر من كل عام، يحتفل العالم باليوم الدولي للمتطوعين، تكريمًا لجهودهم وتحفيزًا للعطاء. وفي غزة، لكل متطوع حكاية تسطر بطولةً في مواجهة التحديات، تحمل رسالة شعبٍ يرفض الاستسلام مهما اشتدت الظروف.
كاميرا تصف أبعاد المشهد

فرح الريفي، 20 عامًا، مصورة وناشطة اجتماعية، كانت تحلم باستكمال دراستها ومتابعة مسارها في الإعلام. لكن الحرب فرضت واقعًا مختلفًا، وجدت نفسها كمتطوعة تسعى لاستثمار وقتها، ووجدت في العمل التطوعي طريقة لخدمة شعبها وسط الظرف الصعبة.
في كل يوم، تتنقل فرح بين الأطفال، تحمل كاميرتها بيدها، وتفاصيلهم البسيطة بقلبها، تحاول التقاط لحظاتهم ومشاعرهم وسط واقع مليء بالخوف والدمار، تنتج صورًا وفيديوهات وترسلها إلى العالم كرسالة تقول فيها: “رغم كل شيء، مازلنا هنا”.
لم تكن مهمة فرح سهلة، فتروي لنا مشهدًا لا تنساه: “في إحدى المرات أثناء ممارستي لعملي التطوعي، حدث استهدافٌ قريب، شعرت بالذعر، كان صراخ الأطفال يملأ المكان، توقفت عن التصوير وألقيت كاميرتي، وركضت نحو طفلة كانت ملقاة على الأرض مصابة بشظية في بطنها أحاول مساعدتها. في تلك اللحظة، أدركت أن عملي التطوعي كمصورة كان أكبر من مجرد توثيق، كان يتعلق بوجودي عندما يحتاجني الناس، فخلال التطوع خصوصًا في الحرب، تجد نفسك تؤدي أدوارًا متعددة، لا تنفصل عن مهامك الإنسانية، تجد نفسك مؤهلاً للتصرف في حالات الطوارئ، والوقوف إلى جانب الآخرين وتقديم المساعدة بلا تردد، تجد نفسك تفعل مالا كنت تفعله”.
تصف فرح تجربتها اليومية في معاناة الحصول على طاقة فتقول: “كل يوم يحمل تحديًا جديدًا، من انقطاع الكهرباء الذي يجعل شحن الأجهزة مهمة معقدة، إلى ضعف الإنترنت الذي يجعل تحميل الصور والفيديوهات يبدو وكأنه تسلق جبل”. لم تكن هذه التحديات سهلة عليها، لكنها دائمًا ما حاولت إيجاد بدائل للتغلب عليها، فتضيف: “العمل التطوعي يجعلك تتحدى الصعاب”.
“التطوع خلال الحرب ليس مجرد عمل إنساني، بل تجربة أكبر وأعمق. كل صورة كانت تجسد صمود الأُناس هنا، تشعر بأنك جزء من آمالهم، وآلامهم. لم أكن أصور فقط، كنت أعيش حياتهم المكسورة، أراها من خلال عدستي. حاولت أن أقدم شيئًا من لا شيء، تعلمت أن أواجه تحديات أكبر من قدرتي على التحمل، وأن أكون هنا، إلى جانب الناس عندما يحتاجونني أكثر” هكذا تختصر فرح تجربة التطوع.
تضميد الجراح وسط حربٍ ضروس

حنين عرفات، 22 عاما أخصائية تحاليل طبية، ومتطوعة في إحدى عيادات شمال قطاع غزة كرست كل ما تعلمته في الجامعة من أجل مداواة جراح الناس، والتخفيف من آلامهم.
تقول حنين بصوت يحمل في طياته سعادة غامرة: “حينما لا تتألم طفلة من وخز الإبرة؛ يتراقص قلبي فرحًا، أو حينما لا يكف لسان مسن عن الدعاء لي، أشعر بامتنانٍ عظيمٍ لهذه التجربة.”
رغم اشتداد وطيس الحرب في شمال القطاع إلا أن حنين تصر على التطوع، وكأن الله جعلها مفتاحاً لعلاج المرضى. فتقول: “أذهب كل يوم إلى عملي وقلبي متخوف أن يصيب عائلتي مكروه في غيابي، فأبقى في الحياة وحدي.”
يواجه القطاع الصحي في غزة تحدياتٍ كثيرة، من نقصٍ للمعدات الطبية وانقطاع الأدوية اللازمة للعلاج، فتقول حنين:” قلبي يعتصر ألمًا حينما لا نستطيع عمل اللازم للمريض”.
تدمير الاحتلال للمستشفيات في غزة زاد من صعوبة المشهد، فيضطرون لقطع مسافات طويلة للعلاج في عيادات محدودة. تقول حنين: “نتعامل يوميًا مع أكثر من 100 مريض، فلا نجد وقتاً للأكل أو الشرب، لنساعدهم في العودة سريعًا إلى منازلهم بأمان ولا يصيبهم أذى.”
التطوع في القطاع الصحي لا يترك أثراً في المريض فقط بل يترك أثراً في المتطوع أيضًا، تقول حنين: “رغم صعوبة عملي إلا أنني تعلمت كيف أنظم وقتي، وعرفت جيدًا معنى أن تكون سعيدًا حينما تخفف أوجاع المرضى الجسدية، والروحية.”
فرح وحنين، مثالٌ للآلاف الحكايات التي وُلدت من رحم الإبادة، فأثبتتا أن التطوع ليس مجرد فعل عابر، بل هو إحساس بالمسؤولية تجاه الآخرين.